الأيام تمر ونار الغضب المستعرة لا تزال مشتعلة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولايزال الحراك الاحتجاجي مستمرا ويتصاعد ويتسع نطاقه بعد قتل (جورج فلويد) الأمريكي من أصول أفريقية من قبل بعض رجال الشرطة البيض أثناء القبض عليه في 25مايو/أيار في مدينة مينيابوليس وكان مقتله هو السبب أو الشرارة التي أثارت حفيظة الجماهير التي خرجت في ليلة الأحد ٣١ مايو/آيار.
وقد حدثت اشتباكات كثيرة بين المتظاهرين وقوات الأمن في عدة مدن في الولايات المتحدة بما في ذلك واشنطن العاصمة على بعد خطوات قليلة من البيت الأبيض، وتم نُشِر جنود الحرس الوطني في ١٥ ولاية وفرضت السلطات المحلية حظر التجوال على المواطنين في عشرات المدن وهو أمر لم يحدث منذ اغتيال مارتن لوثر كينغ في عام 1968 واندلاع حركات الاحتجاج وأعمال الشغب التي أعقبت مقتله. ومن الملاحظ أن هناك شيئا استثنائي يحدث في الولايات المتحدة في وقتنا الحالي وبأن النظام الأمريكي يتعامل حرفياً هنا مع انفجار برميل من البارود، فإن الذي يحدث في الولايات المتحدة هو حدث غير مسبوق بالمرة تاريخيا من حيث سرعة الانتشار للاحتجاجات في العديد من المدن ونوعية المظاهرات من حيث كونها خليطا ما بين السلمية والعنيفة وبهذه الطريقة القوية. وفي هذا السياق نرى بأن الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة قد توفر بها مناخاً يستقطب المشكلات وتربة خصبة للنزاعات العنصرية وخصوصاً منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا لها، لأنه كان يلعب لعبة خطيرة أو بالأحرى كان يلعب بالنار لمدة ثلاث سنوات من خلال خطاباته والتي يبث خلالها كل العبارات العنصرية التحريضية المليئة بالكراهية ضد الأعراق والمسلمين والتي يحرض فيها السكان على الكراهية.
ويجب الالتفات أيضاً بأن مقتل (جورج فلويد) كان له وقع شديد على الرأي العام الأمريكي وكان بمثابة الشرارة التي أشعلت نار الاحتجاجات والمظاهرات وخصوصاً أن هذا الأمر قد حدث في ذروة انتشار فيروس كورونا المستجد والذي أسقط الضوء على أوجه التناقضات الكبيرة الموجودة في هذا النظام الرأسمالي للولايات المتحدة الأمريكية والذي ألحق أضرارا بالمجتمع الأمريكي (الطبقات الفقيرة والفئات الشعبية) سواء من حيث انتشار الفيروس فيهم وعدد الوفيات نتيجةً لضعف التدابير الصحية أو تأثير هذه الجائحة على الاقتصاد الذي تضرر بشكل كبير والذي كان ضرره بشكل خاص على هذه الطبقات لأنه كان يضمن على الأقل لجزء كبير منهم بأن يبقوا أحياء . وكل الذي يحدث في الولايات المتحدة في هذا الوقت حدث نتيجة بروز التناقضات والمشكلات في هذا النظام وتراكمها حتى ظهرت على السطح وانكشفت لأغلب الشعب الأمريكي ومنها تفشي الفقر والحرمان و ازدياد مشاكل البطالة وضعف المنظومة الصحية(خلال جائحة كورونا) وإلى غياب الإنسانية عن هذا النظام الأمريكي وعن رئيسه (دونالد ترامب) الذي تجاهل و بشكل مستفز هذه الأحداث في بدايتها، ثم زاد الوضع سوءا بتغريداته التي بعث من خلالها برسالة مفادها أن “- من وجهة نظره – حياة كل البشر ليست بنفس الدرجة من المساواة” . ودعوته كذلك بتغريدة أخرى إلى إطلاق النار على المتظاهرين وحث السلطات المحلية على استدعاء الحرس الوطني لاستعادة النظام، وقد زاد بفعلته هذه من غضب اليسار الأمريكي المناهض له والذي هو مثار فعلاً من سوء إدارته للأزمة الصحية الراهنة (أزمة انتشار فيروس كورونا). فإذا هذه المشكلة ليست مجرد مشكلة عنصرية بين الأعراق بل هي مشكلة جذورها عميقة ومعقدة وأصبح حلها يشكل تحدياً كبيراً للإدارة الأمريكية مما وضعها في مأزق شديد يصعب الخروج منه ، وبالتأكيد لا يمكن للشعب الأمريكي أن يقبل بما حدث وبالذي يحدث الآن فهم تقريبا في حيرة وخوف وهناك الكثير من الأسئلة التي يطرحونها ويريدون لها جواباً : هل هذه أمريكا التي نريدها؟ هل هذه هي بلد الحريات والعدالة والمساواة والشعارات التي صدعنا رؤوس العالم افتخاراً بها؟.
ولذلك نرى بأن هذه المظاهرات تدعو بشكل عام إلى إعادة النظر في وسائل العيش في الولايات المتحدة وإلى تغيير الأوضاع الاقتصادية ونبذ النزاعات العنصرية وإعادة النظر فيما هو مقبول وما هو غير مقبول، ولذلك فإن الكثير من البيض يشاركون في هذه المظاهرات وكذلك تشمل الحركة الحالية تجمع بين شرائح متباينة من السكان وعدد كبير لا يستهان به من هذه الشرائح قررت النزول والمشاركة في هذه المظاهرات بصورة تلقائية في الشوارع وكأنه هو رد الفعل العفوي لما تعرضوا له من خيبات أمل من هذا النظام الأمريكي المفتقر للعدالة. كشفت وفاة (جورج فلويد) المستور وأنهت الأوهام المنتشرة عالمياً بأن الولايات المتحدة هي النموذج الفاضل للدولة وأوهام من قبيل “أمريكا بلا عنصرية” أو “أمريكا بلا ألوان” وقد أدرك الكثير من الشعب الأمريكي بأنها مجرد شعارات لا أكثر وبأن الطريق لا تزال طويلة لتجاوز وعبور هذه المشاكل العنصرية المتفشية ولقد أصبح الشعب على وعي بضرورة محوها وتجاوزها، ومن الملاحظ وفي الآونة الأخيرة بأن الشعب الأمريكي خصوصاً فئة الشباب منهم باتت أكثر وعياً والكثير منهم يستحسنون فكر اليسار المناهض للفكر السائد يسارا أكثر تقدما فيما يتعلق بمسائل العدالة العرقية والعدالة الاجتماعية.
بكل الأحوال نحن لا نستطيع الجزم بأن الحال سيتغير في الولايات المتحدة الأمريكية ولكن نأمل ونتمنى الأفضل لحركتهم ونقول بأن التغيير مرهون بوعي الشعب ونضاله ومنهجه فيجب عليهم التركيز على هدف ألا وهو تغيير النهج والنظام الحالي سياسياً واقتصادياً إلى نموذج أفضل تكون فيه العدالة والمساواة والحرية الحقيقية مضمونة للشعب الأمريكي ككل. السيطرة على النار ومحاصرتها إذا اشتعلت ليست مضمونة فمن الممكن أن تحرق أول من ينفخ تحت جمرها، ونصيحتي إلى هذا النظام الأمريكي الرأسمالي وإلى رئيسه الحالي دونالد ترامب هي أن يستمعوا إلى أغنية قديمة من أغاني راغب علامة وهي: “لا تلعب بالنار تحرق أصابيعك .”
م.عبدالله الزيد الكويت في ٤ يونيو/حزيران ٢٠٢٠

مناقشة
التعليقات مغلقة.